تحت المجهر

أعرف شخصاً مصاباً بلوثة عقلية ونفسية، قضى حياته يبيع قطع قماش لمسح الزجاج، وكان يلف شوارع بغداد على قدميه، من الكاظمية حتى الجادرية، ويعود أدراجه مساء، وبقي على هذه الحال منذ خمسينيات القرن المنصرم حتى وفاته في
التسعينيات، لكن كثيراً ما كان الناس يتحاشونه ظناً منهم بأنه يعمل في جهاز المخابرات آنذاك، وأعرف أيضاً مرشداً تربوياً اضطرته ظروف الحصار الى أن يبيع القهوة العربية متنقباً بيشماغه خشية أن يراه أحد الطلبة، لكن الناس كانت تتحاشاه أيضاً للسبب ذاته، وكان يشاع سابقاً أن سائقي التكسي كلهم وكلاء أمن، وكذلك الحلاقون وأصحاب المقاهي والمطاعم والبارات والفنادق، الأمر الذي رسخ الخوف في ذهنية الناس، نحن لا ننفي وجود الكثير من وكلاء الأجهزة الأمنية في أيام النظام
الدكتاتوري.
لكن التهمة ركبت أشخاصاً أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل، وهذا ديدن الأنظمة الشمولية والدكتاتورية التي تحيط نفسها باحترازات أمنية مشددة، فضلاً عن إشاعة الخوف وإشعار المواطن بأنه مراقب، الأمر الذي ينتج مواطناً سلبياً خائفاً محبطاً، إلى درجة أن المواطن لا يتصور ولا يتوقع ولا يتخيل أن النظام الذي يمتلك جيشاً حارب ثماني سنوات وغزا دولة، ويمتلك أجهزة أمنية منظورة ومخفية، ويمتلك كل هذه الأبعاد البوليسية يمكن اسقاطه بسويعات بدبابة واحدة وقفت على جسر الجمهورية.
أتساءل الآن: هل يمتلك النظام الحالي ما يخيف المواطن؟ لا أظن ذلك، لكن ثمة قوى خارجة على القانون هي التي تحشد باتجاه تخويف المواطن وترهيبه، فالمواطن لم يعد يخشى من مجنون أو أهبل أو بائع خضراوات أو حلاق أو سائق تكسي أو غير ذلك، بل يخشى من قوى إرهابية مسلحة تعمل في الخفاء والعلن، وتتجسس على ما يقوله الشخص أو ينشره على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم في مأمن من الأجهزة الأمنية
للدولة.
بسقوط النظام السابق تهدم جدار الخوف، ومن حق المواطن أن ينعم بالحرية والتحرر من عقدة الخوف، لكن أليس هناك من يستحق المراقبة؟، فالمواطنون يرددون بأن القوانين لا تطبق إلا بالخوف من السلطة، والسلطة الآن هي التي أصبحت تحت المجهر وليس المواطن، فما السبيل لتطبيق القوانين وملاحقة المتمردين ممن يهددون أمن المجتمع؟.