تركيا وأفغانستان ..ماورائيات المشهد

تجري الأحداث في أفغانستان وما حولها بصورة مثيرة للمخاوف، وتدعو لمحاولة استقراء المشهد بشكل عميق، لا سيما أنه يحمل من التطورات ما هو أكبر من الاستيعاب الظاهر للعيان.

في البداية لا يمكن للمرء عقلا أو عدلا أن يتفهم هذا الإصرار الغريب على الانسحاب من قبل إدارة بايدن، رغم الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة التي تقول بخطورة الأمر، وسواء كانت تلك أصوات مدنيين أو عسكريين، لكنك قد أسمعت لو ناديت حيا، غير أنه لا حياة لمن تنادي وسط البيت الأبيض بمخبره ومظهره الحالي.

ومع أن ذلك الانسحاب غير مبرر، فإن ما يستتبعه يفتح الأبواب واسعة لتفسيرات التاريخ المتآمر، وفي القلب منها الدور الذي تعهد به واشنطن لتركيا هناك.

لم يعرف في القديم أو الحديث لتركيا دالة ما على الوساطة القائمة على السلام أو المرتكزة على العدالة، وما فعلته في سوريا والعراق طوال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يؤكد على صدقية ما نقول به.

كان من اللافت للنظر خلال الاجتماع الذي جرى بين الرئيس الأميركي بايدن ونظيره التركي أردوغان نهار 14 يونيو حزيران، خلال قمة الناتو، الاتفاق على تولي تركيا بوصفها عضوا في الناتو مهمة حماية مطار كابول، وهو الأمر الذي روج له أردوغان من قبل في عدة مناسبات.

التناقض الأميركي واضح للعيان في هذا الشأن بنوع خاص، فالرئيس بايدن صرح أكثر من مرة بأن أردوغان حاكم ديكتاتور مستبد، وصب عليه في مرات أكثر جام غضبه، وتوعده بالعقوبات القاسية إن لم يرفع يده عن المعارضة التركية في الداخل.

ومن جهة مقابلة كانت خطيئة أردوغان المميتة بالنسبة للأميركيين متمثلة في سعيه لحيازة منظومة الصواريخ الروسية المتقدمة “أس 400”.

وعلى الرغم من أن الكثير من التفاصيل عن التوكيل الأميركي لتركيا بلعب دور في أفغانستان غير متوافرة، إلا أن التساؤلات غير البريئة باتت تطرح نفسها بنفسها على مائدة النقاش، والسعي لفهم ما يجري من واشنطن لأنقرة حيوي ورئيسي لإدراك أبعاد التحالفات الماورائية بين الطرفين.

قبل الغوص في لجة التحليل على القارئ أن يطالع بعض صفحات من كتاب “الأعوام المائة القادمة”، والخاص باستشراف المستقبل الزمني للقرن الحادي والعشرين، وهو من تأليف، جورج فريدمان، رجل استخبارات الظل، ومؤسس وكالة ستراتفور الأميركية الشهيرة.

في هذا السفر الكبير والمثير، تتضح لنا معالم وملامح الدور التركي في المنطقة والعالم عبر العقود الثلاثة القادمة، وقد يعتبر البعض رؤية فريدمان بمثابة شطحات سياسية، لا سيما حين ينظر إلى الحرب العالمية الثالثة بوصفها مواجهة قادمة لاشك، بين تركيا واليابان من جهة، وأميركا والصين وبريطانيا والهند من ناحية أخرى، ويعطي تفسيرات بأن تركيا تعمل جاهدة على توسيع نفوذها عسكريا وسياسيا إلى مناطق نفوذ في المحيط الهادي.

والثابت كذلك أن تركيا، والعهدة هنا على، يفغيني ساتانوفسكي، رئيس معهد الشرق الأوسط في موسكو، تحاول منذ فترة طويلة كسب موطئ قدم في أفغانستان من أجل توسيع نفوذ سياستها الخارجية، والتوسع في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

هل يمكن، وببساطة أن تغيب الأطماع التركية في شرق آسيا كما في شرق المتوسط عن أعين العم سام؟

المتابع يدرك أنه في زمن إدارة ترمب، غضت أميركا الطرف عن تحركات الأغا العثمانلي في مياه البحر الأبيض المتوسط، والثابت بلاشك أن الحزم والجزم المصريين، هما من أرعبا أردوغان وليس ترمب، ولهذا تقلصت أطماع الرجل في ليبيا وفي غاز المتوسط، وكأن ساكن البيت الأبيض وقتها كان يتلاعب بالتركي، يرغبه تارة ويهدده تارة أخرى، بهدف تحقيق مصالحه ليس أكثر.

وفي كل الأحوال يبدو الدور التركي القادم مدعاة لتساؤل ضمن دائرة الرؤى الاستراتيجية الكبرى مفاده: “هل يكون لتركيا في أفغانستان دور ما يرتبط بإعادة إحياء التيارات الراديكالية التي حاولت تركيا رفع لوائها في الشرق الأوسط قبل عقد من الزمن وأخفقت إخفاقا ذريعا؟

هنا يكون الجواب الطبيعي، وما الهدف من مثل تلك المحاولة، ويكون الرد على التساؤل من جديد مرتبطا بالهدف الأميركي البعيد، وباستراتيجية الاستدارة إلى الشرق الآسيوي، الطبعة المحدثة من مشروع القرن الأميركي، والذي وضع لبناته المحافظون الجدد في نهاية تسعينات القرن المنصرم.

القصة باختصار عند بعض أصحاب الخلفيات الاستخبارية لا التآمرية، هي أن واشنطن في غالب الأمر تنسحب من أفغانستان لتفتح الطريق واسعا للفوضى في تلك المنطقة، من خلال التيارات الأصولية المتشددة، ناهيك عن جماعات العنف المسلح التي لا تغيب عن أعين أحد، والتي تجد الحماية والرعاية في كنف طالبان.

لن تكون الفوضى هناك خلاقة هذه المرة، كما رتبت ودبرت كونداليزا رايس ذات ليل بهيم لدول الشرق الأوسط، بل ربما تكون فوضى مدوية، تعمل جاهدة من خلالها على إغراق الصين بنوع خاص في لجة المعارك مع طالبان، والتي تسيطر على معابر أفغانستان ومرتكزاتها شبرا شبرا صباح مساء كل يوم، ومن غير أدنى مقدرة على المواجهة من قبل الحكومة الأفغانية، والتي فشلت واشنطن بعد عقدين من الزمن وتريليونات من الدولارات من أن تجذر حضورها هناك.

وعلى جانب آخر لا توفر واشنطن موسكو من خططها التي تستخدم فيها طالبان كمخلب قط من جديد، وتسخر تركيا لتنفيذ المخطط القادم في مقابل الصمت على فضائحها السياسية والإنسانية داخل تركيا وخارجها.

الولايات المتحدة الأميركية مصابة بداء النسيان المزمن، والخوف كل الخوف من النتائج المترتبة على الانسحاب أولا، ثم على التلاعب بتركيا ثانية.. القادم مثير فانظر ماذا ترى.