حين ترتفع درجات الحرارة إلى هذا المستوى القياسي، وحين تكون البيئة بهذا المستوى من الرداءة، فإنَّ الأمر يكشف عن علّةٍ ما، والمسؤولية تقتضي البحث عن معالجات واقعية وحقيقية لها، بدءاً من معالجة المنظومة الكهربائية المشوَّهة والكشف عن أسرار ملفاتها، وليس انتهاء بمعالجة البيئة الجرداء التي تلعب دوراً في تصحير الأرض، وفي جعلها عرضة للتحولات الايكولوجية المعقدة، والتي ستضرّ الزراعة والصحة والمياه..
عودة إلى التاريخ، سنجد أنَّ بلاد مابين النهرين، وهي كناية أسطورية للعراق تكشف عن أنَّ المُسمى له دلالة عميقة على المكان، وعلى الوفرة والإشباع والخصب، لكنّه بالمقابل سيُحيلنا أيضاً إلى “المجال الرمزي” حيث حجم الخراب الذي عشناه منذ عام 1963 وإلى يومنا هذا، وإلى علاقة ذلك بالانقلابات العسكرية الدائمة والحروب العبثية والطويلة وسوء الإدارة الستراتيجية لملفات المياه والزراعة والبيئة، وبكلِّ الذي نعيش أيامه التراجيدية، وكأننا بلد من القرون الوسطى…
فالأحزمة الخضر التي كان يشتهر بها العراق، والطبيعة المائية للبيئة وللمزاج والثقافة تحوَّلت إلى علامات للعتمة، فغابت الأحزمة، وصرنا جزءاً من جغرافيا الصحراء، وتعطبت ثقافة الري، فصار المزاج حاداً وعنيفاً، لايقبل الحوار، حتى صرنا أشبه بلوحات فان كوخ يأخذنا الذبول إلى أقصى دلالاته الانطباعية.
المراجعة تعني معالجة ملفات السياسة أولاً، وملفات الإدارة ثانياً، ومعالجة الأسباب البيئية بطريقة علمية ثالثاً، وصولاً إلى مواجهة الفساد الذي هو شكل آخر للحرب والاستبداد، وأحسب أنَّ مسؤولية المراجعة تقتضي وعياً ودراية وشجاعة، مثلما تقتضي رؤية مهنية فاعلة، على مستوى مقاربة الواقع، وعلى مستوى إيجاد البرامج والمشاريع والخطط الواقعية التي من شأنها الحدّ من الأخطار القادمة.
ارتباط أزمة السياسة بأزمة البيئة، وبأزمة الإدارة صار جزءاً من البداهات، وجزءاً من المشكلات العامة، ليس لأنَّ القيمين على إدارة تلك الأزمات قاصرو النظر، بل لأنَّ الإرادة غائبة، والمسؤولية عامة مخذولة، والتُهم تُلقى جزافاً من كلِّ المنابر، وعلى كلِّ المنابر، وكأنَّ الذي يجري من خراب وفساد وعطب ورثاثة أتى من خارج الأرض، وأنَّ الجميع أبرياء، وأنَّ وعيهم الأخضر مؤجَّل إلى حين ميسرة..
لقد بات الأمر محرجاً، وحاداً، وجرحاً نرجسياً وعاماً، عميق الغور والألم في أرواحنا وأجسادنا، وهو ما يتطلب معالجة هي الأقرب إلى الطوارئ السياسية والثقافية والأمنية والمهنية، لكي نتدارك التداعيات، ولكي يقف الجميع أمام هذه التحديات الوطنية، بعيداً عن المزايدات الانتخابية ورمي الحجر العشوائي على الآخرين.